الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: خزانة الأدب وغاية الأرب ***
؟كأن بين فكها والفك فارة مسكٍ ذبحت في سك لما تقدم قبله. وكان القياس أن يقول: بين فكيها، لكنه أتى بالمتعاطفين للضرورة. قال ابن يعيش: الأصل في قولك الزيدان: زيد وزيد. والذي يدل على ذلك أن الشاعر إذا اضطر عاود الأصل، نحو قوله: كأن بين فكها والفك أراد: بين فكيها، فلما لم يتزن له رجع إلى العطف، وهو كثيرٌ في الشعر. انتهى. والفك، بالفتح: اللحي، بفتح اللام وسكون المهملة، وهو عظم الحنك، وهو الذي عليه الأسنان. وهو من الإنسان حيث ينبت الشعر، وقال في البارع: الفكان: ملتقى الشدقين من الجانبين. قال ابن السيرافي: وصف امرأةً بطيب الفم. يريد أن ريح المسك يخرج من فيها. وفأرة: منصوب اسم كأن، وبين خبرها. والسك: ضرب من الطيب. انتهى. وذبحت: بالبناء للمفعول. قال يعقوب في إصلاح المنطق: قال الأصمعي: الذبح: الشق. وأنشد البيت. أي: شقت وفتقت. وقال المفضل بن سلمة الضبي في كتاب الطيب: ومن الطيب المسك، يقال: هو المسك، والأناب، واللطيمة. وقال أبو زيد: اللطيمة: المسك، يقال: للعير التي تحمل المسك أيضاً لطيمة. ويقال للتي فيها المسك: فارة ونافجة. قال الأحوص: البسيط كأن فارة مسكٍ فض خاتمه *** صهباء ذاكيةً من مسك دارينا وقال آخر: الرجز كأن حشو المسك والدمالج *** نافجةٌ من أطيب النوافج ويقال: فتقت الفارة، وذبحت، وفضت، وشقت. قال الراجز: كأن بين فكها والفك *** فارة مسكٍ ذبحت في سك والسك، بضم السين: نوعٌ من الطيب. وقال أبو حنيفة الدينوري في كتاب النبات: الفار: جمع فارة، وهي فار المسك، وهي نوافجه التي يكون المسك فيها، شبهت بالفار وليست بفار، إنما هي سرر ظباء المسك. قال الشاعر: الطويل إذا التاجر الهندي وافى بفارةٍ *** من المسك أضحت في مفارقهم تجري وقال آخر في وصف امرأة: البسيط كأن فارة مسكٍ في مقبلها وهي مهموزة فأرة وفأر. وكذلك الفأر كله مهموز. وبنواحي الهند فأر يجلب إلى أرض العرب أحياناً، قد تأنست وألفت، تدور في البيوت، تدخل بين الثياب، فلا تلابس شيئاً، ولا تدخل بيتاً ولا تخرأ على شيء، ولا تبول عليه، إلا فاح طيباً. ويجلب التجار خرءها فيشتريه الناس، ويجعلونه في صررٍ، ويضعونها بين الثياب فتطيب. وأخبرني من رآها أنها نحو بنات مقرض. وفارة الإبل مأخوذة من هذا، وهي الإبل التي ترعى أفواه البقول الطيبة في العذوات العازبة ثم ترد الماء فتشرب، فإذا رويت ثم صدرت فالتف بعضها ببعض، فاحت برائحة طيبة. قال الأصمعي: قلت لأبي مهدية: كيف تقول: ليس الطيب إلا المسك. وهو يريد أن يعلم كيف يعربه. فقال أبو مهدية له: فأين العنبر؟ فقال الأصمعي: فقل: ليس الطيب إلا المسك والعنبر. فقال: أين أدهان حجر؟ فقال: فقل ليس الطيب إلا المسك والعنبر وأدهان حجر. فقال: فأين فارة إبل صادرةٍ؟ ومن هذا الجنس والضرب الذي ذكرنا الدويبة التي تسمى الزباد، وهي مثل السنورة الصغيرة فيما ذكر لي، تجلب من تلك النواحي، وقد تأنس فتقتنى وتحتلب شيئاً شبيهاً بالزبد يظهر على حلمتها بالعصر، كما يظهر على آنف الغلمان المراهقين، فيجمع وله رائحة طيبة البنة. وقد رأيته يقع في الطيب. وقد بلغني أن شحمه كذلك أيضاً. وقد ذكر بعض الشعراء القدم بعض هذا وجعله أمعاء الدابة، وظن أنه إنما طاب جوفه لأنه يأكل الطيب، فقال: البسيط تكسو المفارق واللبات ذا أرجٍ *** من قصب معتلف الكافور دراج والأعراب لا يميزون هذا. وفي فارة الإبل، يقول الراعي: الطويل لها فأرةٌ ذفراء كل عشيةٍ *** كما فتق الكافور بالمسك فاتقه ظن أنه يفتق به. وكان الراعي أعرابياً قحاً، والمسك لا يفتق بالكافور. انتهى كلام الدينوري. والبنة، بالفتح للموحدة وتشديد النون: الرائحة الطيبة، وربما قيلت في غير الطيبة. وقال أبو القاسم علي بن حمزة البصري اللغوي فيما كتبه على كتاب النبات من تبيين أغلاط الدينوري: قد غلط في همز هذه الفارة، لأن الفأر كله مهموز إلا فارة الإبل. وقد اختلف في فارة المسك وفأرة الإنسان وهي عضله. والأعلى في فار المسك الهمز، وفي فار الإنسان ترك الهمز. ومن كلامهم: أبرز نارك، وإن أهزلت فارك ، أي: أطعم الطعام وإن أضررت ببدنك. فأما قوله: والمسك لا يفتق بالكافور ، فصحيح. ولم يقل لراعي: كما فتق المسك بالكافور فاتقه ، إنما قال: كما فتق الكافور بالمسك ، وإن كان المسك لا يفتق بالكافور فإن الكافور يفتق بالمسك. وجعل الراعي أعرابياً قحاً ونسبه إلى الجفاء، وأوهم أنه غلط، وخطأه في شيء لم يقله، إلا أن يكون عند أبي حنيفة أن الكافور لا يفتق بالمسك، ويكون هو قد غلط في العبارة وعكسها، فيكون في هذه الحال أسوأ حالاً منه في الأولى، ويكون قليل الخبرة بالطيب وعمله واستعماله. ولا رائحة أخم من الكافور إذا فتق بالمسك، يشهد بذلك بنو النعمة والعطارون قاطبة. انتهى. والرجز الشاهد لمنظور بن مرثدٍ الأسدي. قال ابن بري في حاشيته على صحاح الجوهري: وقبله: الرجز يا حبذا جاريةٌ منعك *** تعقد المرط على مدك مثل كثيب الرمل غير رك وعكٌّ، بفتح العين المهملة: أبو قبيلة من الأزد في قحطان. والمرط، بالكسر: كساء من صوفٍ وخز يؤتزر به وتتفلع به المرأة. وأراد بالمدك، بكسر الميم: العجز. والرك، بكسر الراء المهملة: المهزول، والمكان المضعوف الذي لم يمطر إلا قليلاً. قاله الصغاني، وأنشد البيت للمعنى الأول. وقال: وذكره بعض من صنف في اللغة بالزاي، في اللغة وفي الرجز، وهو تصحيف. انتهى. وأراد به الجوهري. وقد خطأه كذلك ابن بري في حاشيته على الصحاح، وتبعه الصفدي أيضاً. ومنظور بن مرثد تقدم في الشاهد الثاني والأربعين بعد الأربعمائة. وأنشد بعده: البسيط لو عد قبرٌ وقبرٌ كنت أكرمهم *** ميتاً وأبعدهم عن منزل الذام على أن تعاطف المفردين فيه ليس من قبيل ما تقدم من كونه للضرورة، بل لقصد التكثير، إذ المراد: لو عدت القبور قبراً قبراً. ولم يرد قبرين فقط، وإنما أراد الجنس متتابعاً واحداً بعد واحد. يعني: إذا حصلت أنساب الموتى وجدتني أكرمهم نسباً، وأبعدهم من الذم. والبيت من أبيات أربعة أوردها أبو تمام والأعلم الشنتمري وصاحب الحماسة البصرية في حماساتهم، لعصام بن عبيد الزماني. ونسبها الجاحظ في كتاب البيان لهمامٍ الرقاشي، وهي: أبلغ أبا مسمعٍ عني مغلغلةً *** وفي العتاب حياةٌ بين أقوام أدخلت قبلي قوماً لم يكن لهم *** في الحق أن يلجوا الأبواب قدامي لو عد قبرٌ وقبرٌ كنت أكرمهم *** ميتاً وأبعدهم عن منزل الذام فقد جعلت إذا ما حاجتي نزلت *** بباب دارك أدلوها بأقوام قوله: أبلغ أبا مسمع إلخ، هو بكسر الميم الأولى وفتح الثانية. والمغلغلة: الرسالة، لأنها تغلغل إلى الإنسان حتى تصل إليه من بعد، من قولهم: تغلغل الماء، إذا دخل بين الأشجار. وأصل الغلغلة دخول الشيء في الشيء. وجملة: وفي العتاب حياة إلخ، معترضة بين أبلغ وبين أدخلت. والعتاب: اللوم والتوقيف على الذنب. يعني ما دام القوم يلوم كلٌّ منهم صاحبه على ما صدر منهم من التقصير لصاحبه، يرجى صلاحهم وارتباط موداتهم. وإن لم يتعاتبوا انطوت ضمائرهم على الأحقاد. وقوله: أدخلت قبلي قوماً إلخ، أي: قدمتهم علي في الإذن وإن لم يكن من حقهم أن يتقدموا علي إذا وردنا الأبواب. ويلجوا: يدخلوا. وروي: أن يدخلوا. ودخل يتعدى في الأصل بحرف جر، ثم يحذف الجار تخفيفاً، فيقال: دخلت البيت. وقوله: لو عد قبر وقبرٌ إلخ، قال ابن جني في إعراب الحماسة: لم يرد لو عد قبران اثنان، وإنما أراد لو عدت القبور قبراً قبراً. ولو قال: عد قبر قبر فرفع لم يجز ذلك، كما جاز لو عدت القبور قبراً قبراً. وذلك أن هذا من مواضع العطف، فحذف حرفه لضربٍ من الاتساع. وهذا الاتساع خاصةً إنما جاء في الحال، نحو: فصلت حسابه باباً باباً، ودخلوا رجلاً رجلاً، أي: متتابعين. ولو رفعت، فقلت: فصل حسابه بابٌ بابٌ، وأدخلوا رجلٌ رجلٌ على البدل لم يجز. وعلى هذا قالوا: هو جاري بيت بيت، ولقيته كفة كفة، فاتسعوا بالبناء على الحال. ونحوها في ذلك الظرف، نحو قولك: كان يأتينا يوم يوم، وليلة ليلة، وأزمان أزمان، وصباح مساء. فلو خرجت به عن الظرفية لم يجز فيه هذا البناء. ألا تراك تقول: هو يأتينا كل صباح مساءٍ، في ليلةٍ ليلةٍ، فتعرب البتة. انتهى. وقال الطبرسي: يريد لو عدت القبور قبراً قبراً، إلا أنه اقتصر، وحذف القبور، وجعل القبر فاعلاً، وأزاله عن سنن الحال. وقيل: معناه: لو عد قبري، وقبر الداخل قبلي لكنت أكرم منه ميتاً. انتهى. والذام: لغة في الذم بتشديد الميم. وقوله: فقد جعلت إذا إلخ، هو بالتكلم. قال الطبرسي: أي: طفقت وأقبلت، إذا نزلت حاجتي بباب دارك، يريد إذا ألجأتني إليك حاجة أدلوها، أي: أتنجرها بغيري، واستشفعت أقواماً في قضائها، ولم أقربك بنفسي. انتهى. قال أبو حنيفة الدينوري في كتاب النبات؛ الدلو: الاستقاء بالدلو من العمق. يقال أدلى الدلو: إذا حدرها للاستقاء، يدليها إدلاء. ودلاها، إذا اجتذبها إليه يدلوها دلواً. قال تعالى: {فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه}، فهذا من الإدلاء، وهو إلقاؤها في البئر. وقال الشاعر في دلوت: فقد جعلت إذا ما حاجةٌ عرضت ***.............. البيت أي: أبتغي شفعاء يستخرجون لي حاجتي. انتهى. وعصام بن عبيد: شاعر جاهلي. وعبيد: مصغر عبد بالتذكير. وزمان، بكسر الزاي وتشديد الميم: أحد أجداد الشاعر، وهو من بني حنيفة. وأنشد بعده: الطويل هما نفثا في في من فمويهم *** على النابح العاوي أشد رجام وتقدم شرحه مفصلاً في الشاهد السادس والعشرين بعد الثلثمائة. وضمير التثنية لإبليس وابن إبليس. ونفثا، ألقيا على لساني. والنابح: هنا أراد به من يتعرض للهجو، والسب من الشعراء، وأصله في الكلب. ومثله العاوي. والرجام: مصدر راجمه بالحجارة، أي: راماه. وراجم فلانٌ عن قومه، إذا دافع عنهم. جعل الهجاء في مقابلة الهجاء كالمراجمة، لجعله الهاجي كالكلب النابح. والبيت آخر قصيدة للفرزدق قالها في آخر عمره تائباً إلى الله تعالى مما فرط منه من مهاجاته الناس، وذم فيها إبليس لإغوائه إياه في شبابه. وأنشد بعده: الكامل يديان بيضاوان عند محلمٍ هذا صدرٌ، وعجزه: قد يمنعانك أن تضام وتضهدا على أنه مثنى يداً بالقصر، فلما ثني قلبت ألفه ياء، كفتيان في مثنى فتى، لأن أصلها الياء، فإن التثنية من جملة ما يرد الشيء إلى أصله. وإنما قلبت في المفرد ألفاً لانفتاح ما قبلها. وتقلب واواً في النسبة إليها عند الخليل وسيبويه، فيقال: يدويٌّ. قال صاحب الصحاح: وبعض العرب يقول لليد: يداً، مثل رحاً. قال الشاعر: الرجز يا رب سارٍ بات ما توسد *** إلا ذراع العنس وكف اليدا يديان بيضاوان...... ***.............. البيت وكذا قال ابن يعيش. وفيه ردٌّ على من زعم أن يديان مثنى يد ردت لامه شذوذاً، كالزمخشري في المفصل. قال ابن يعيش: متى كانت اللام الساقطة ترجع في الإضافة فإنها ترد إليه في التثنية، لا يكون إلا كذلك. وإذا لم ترجع في الإضافة لم ترجع في التثنية كأب وأخ، تقول: أخوان وأبوان، لأنك تقول في الإضافة: أبوك وأخوك، فترى اللام رجعت في الإضافة، فلذلك رددتها في التثنية. وذلك لأنا رأينا التثنية قد ترد الذاهب الذي لا يعود في الإضافة، كقولك في يد: يديان، وفي دم: دموان. وأنت تقول في الإضافة يدك ودمك، فلا ترد الذاهب. فلما قويت التثنية على رد ما لم ترده الإضافة صارت أقوى من الإضافة. وحمل أصحابنا يديان على القلة والشذوذ، وجعلوه من قبيل الضرورة. والذي أراه أن بعض العرب يقول في اليد: يداً في الأحوال كلها، يجعله مقصوراً كرحاً. إلى آخر ما ذكره الجوهري. وكذا صنع ابن الشجري في أماليه، قال: ويدٌ أصلها يديٌ لظهور الياء في تثنيتها، ولقولهم: يديت إليه يداً، أي: أسديت إليه نعمة. قال: الوافر يديت على ابن حسحاس بن بدرٍ *** بأسفل ذي الجذاة يد الكريم فيجوز أن تكون اليد، التي هي النعمة مأخوذةً من التي هي الجارحة، لأن النعمة تسدى باليد. ويجوز أن تكون الجارحة مأخوذةً من النعمة، لأن اليد نعمةٌ من نعم الله على العبد، ويدل على سكون عينها جمعها على أيدٍ، لأن قياس فعلٍ في جمع القلة أفعل، كأكلبٍ وأكعب وأبحر، وأنسر في جمع نسر. وفتح الدال في التثنية، كقوله: يديان بيضاوان... البيت لا يدل على فتحها في الواحد، لما ذكرته من إجراء هذه المنقوصات على الحركة إذا أعيدت لاماتها، وذلك لاستمرار حركات الإعراب عليها في حال نقصها، وكذلك إذا نسبت إليها أعدت المحذوف وفتحت الدال، وأبدلت من الياء واواً، كما أبدلت من ياء قاض. فقلت: يدويٌّ. هذا قول الخليل وسيبويه في النسب إلى هذا الضرب. وأبو الحسن الأخفش ينسب إليه على زنته الأصلية، فيقول: يدييٌّ، وفي غدٍ: غدوي، وحرٍ: حرحي. والخليل وسيبويه، يقولون: غدوي وحرحي. وجمع اليد التي هي الجارحة في الأكثر على أيدٍ، وقد جمعها على أياد، في قوله: الرجز قطنٌ سخامٌ بأيادي غزل سخامٌ: ناعم. واليد التي هي النعمة جمعها في الأكثر الأشهر على أيادٍ. وقد جمعوها على الأيدي، وإنما الأيادي جمع الجمع، كقولهم في جمع أكلب: أكالب. وقولهم في تثنيتها: يدان، أكثر من قولهم: يديان. فهذت مضادٌّ لقولهم: دمان ودميان. انتهى. وكذا قال ابن جني في شرح تصريف المازني، قال: إذا قالوا في النسب إلى يدٍ يدوي تركوا عين الفعل محركة بعد الرد، لأنهم لو حذفوا الحركة عند رد اللام لكانت اللام كأنها لم ترد، لأنها قد عاقبت الحركة. وهذا قول أبي علي فيما أخذته عنه، وهو يشهد لصحة قول سيبويه فيما ذهب إليه في تبقية الحركة التي حدثت بعد الحذف، إذا رد إلى الكلمة ما حذف منها. وأبو الحسن يذهب إلى ما وجب بالحذف عند رد المحذوف، والقول قول سيبويه. ألا ترى أن الشاعر لما رد الحرف المحذوف بقى الحركة في قوله: يديان بيضاوان......... ***.............. البيت قال أبو علي: فإن قيل: فما تصنع بقوله: الرجز إن مع اليوم أخاه غدوا وقول الآخر: الطويل وما الناس إلا كالديار وأهله *** بها يوم حلوها وغدواً بلاقع ألا ترى أنه رد اللام وحذف حركة العين. فهذا يشهد لصحة قول أبي الحسن الأخفش. فالجواب: أن الذي قال غدواً ليس من لغته أن يقول: غد فيحذف، بل الذي يقول: غد غير الذي قال غدواً. انتهى. قال ابن المستوفي: الذي قاله ابن جني غير ما ذكره الجوهري، فتثنيته يدين على ما ذكره ابن جني صناعية، وعلى ما ذكره الجوهري لغوية. وقد تكلم ابن السكيت على يد زيادة على ما ذكرنا في كتاب المؤنث والمذكر، فأحببنا إيراده تتميماً للفائدة. قال: اليد مؤنثة تصغيرها يدية، يرد إليها في التصغير ما نقص منها، والناقص منها ياء. والدليل على ذلك أن الشاعر، قال: الكامل يديان بيضاوان عند محلم *** قد تمنعانك منهما أن تهضما وتجمع ثلاث أيد، ثم جمعوها الأيادي، ولم يقولوا: يدي بالضم، ولا أيداء، وهو قياس. فاستغني بأيد وأيادٍ عنه. قال الشاعر: الطويل فلن أذكر النعمان إلا بصالحٍ *** فإن له عندي يدياً وأنعما فإن شئت جعلت اليدي بالفتح على جهة عصي وعصي، وتركت ضم أوله وكسره لثقل الضم والكسر في الياء. وإن شئت جعلته جمعاً مفتعلاً مثل عبد وعبيد، وكلب وكليب، ومعز ومعيز. ويقال: قد يديته، أي: أصبت يده، وقد يدي من يده إذا شل منها. وحدثني الأثرم عن أبي عبيدة، قال: كنت مع أبي الخطاب عند أبي عمرٍو في مسجد بني عدي، فقال أبو عمرو: لا تجمع أيدٍ بالأيادي، إنما الأيادي للمعروف. قال: فلما قمنا، قال لي أبو الخطاب: أما إنها في علمه ولم تحضره، وهو أروى لهذا البيت مني: الخفيف ساءها ما تأملت في أيادي *** نا وإشناقها إلى الأعناق انتهى. قال بعض فضلاء العجم في شرح أبيات المفصل: المحلم، بكسر اللام، يقال: إنه من ملوك اليمن. وصف اليد وهي النعمة بالبياض، عبارةٌ عن كرم صاحبها. وقوله: عند محلم ، أي: لمحلم. يقال: عند فلانٍ عطيةٌ ومال، أي: له ذلك. كذا في المقتبس. قلت: وجه التشبيه على ما ذكره غير ظاهر، والأظهر أن يراد العضوان، ويراد ببياضهما نقاؤهما وطهارتهما عن تناول ما لا يحسن في الدين والمروءة. وضامه: ظلمه، وكذا هضمه. وضهده: قهره. وقوله: أن تضام وتضهد: مفعول ثان لقوله: تمنعانك، يقال: منعه كذا ومنعه من كذا. وروى: قد تنفعانك وعليه فقوله: أن تضام في محل النصب على الظرف، أي: وقت كونك مظلوماً بالنصرة على من يظلمك والإعانة عليه. انتهى. ورواه الجوهري: يديان بيضاوان عند محرق *** قد تمنعانك منهما أن تهضم ومحرق، بكسر الراء المشددة، قال صاحب العباب: كان عمرو بن هند ملك الحيرة يلقب بالمحرق، لأنه حرق مائة من بني تميم. ومحرق أيضاً: لقب الحارث ابن عمرو ملك الشام، من آل جفنة. وإنما قيل له ذلك لأنه أول من حرق العرب في ديارهم. وهم يدعون: آل محرق. وروى ابن الشجري: ..... عند محلم *** قد تمنعانك أن تذل وتقهرا وأنشده ابن الأعرابي وأبو عمر الزاهد: ...... عند محلم *** قد تمنعانك بينهم أن تهضما وروي أيضاً على غير ما ذكر. ومع كثرة تداوله في كتب اللغة والنحو لم ينسبه أحدٌ إلى قائله ولا ذكر تتمة له. والله أعلم. وأنشد بعده: الوافر فلو أنا على جحرٍ ذبحن *** جرى الدميان بالخبر اليقين على أنه جاء دميان في تثنية دم. وهو شاذٌّ عند الجوهري، لأنه واوي. وما أورده الشارح المحقق هو كلام صاحب الصحاح إلى قوله: فإن قيل إلخ. وصدر كلامه: الدم أصله دموٌ بالتحريك، وإنما قالوا: دمي يدمى، لحال الكسرة التي قبل الياء، كما قالوا: رضي يرضى، وهو من الرضوان. وأنشد البيت. وقال ابن السراج في الصول: وأما دمٌ فهو فعل بالتحريك لأنك تقول: دمي يدمى دماً، فهو دم. فهذا مثل فرق يفرق فرقاً، فهو فرق. فدمٌ مصدر مثل بطر وحذر. وهذا قول أبي العباس المبرد. وليس عندي في قولهم: دمي يدمى حجة لمن ادعى أن دماً فعل؛ لأن قولهم: دمي يدمى دماً، إنما هو فعلٌ ومصدرٌ اشتقا من الدم، كما اشتق ترب يترب ترباً من التراب. فقولهم: دماً اسمٌ للحدث، والدم: الشيء الذي هو جسم. ولكن قولهم: دميان دل على أنه فعل. قال الشاعر لما اضطر: فلو أنا على جحرٍ ذبحن ***.............. البيت ثم قال: وأما دم فقد استبان أنه من الياء، لقول بعض العرب دميان. وقال بعضهم: دموان. فمما دل على أنه من الواو أكثر، لأنهم قد قالوا هنوان وأخوان وأبوان. انتهى كلامه. وهذا مأخذ كلام الصحاح. وقد رد ابن جني بعض هذا في شرح تصريف المازني وأيد مذهب سيبويه، قال: وزن شاة فعلة ساكنة العين. هذا هو الصواب. وكلمت بعض الشيوخ من أصحابنا بمدينة السلام، في العين منها هل هي ساكنة أم متحركة؟ فادعى أنها متحركة، فسألته عن الدلالة على ذلك، فقال: انقلابها ألفاً يدل على أنها متحركة، لأنها لو كانت ساكنة لوجب إثباتها كما ثبتت في حوض وثوب. فقلت له: أنا وأنت مجمعان على أن سكون العين هو الأصل، وأن الحركة زائدة، وحكم الزيادة أن لا تثبت إلا بدليل. فأما قولك انقلابها دليلٌ على الحركة فغير لازم، لأن الحركة التي فيها إنما دخلتها لمجاورتها تاء التأنيث، وقد أجمعنا على أن تاء التأنيث يفتح ما قبلها، وإن سكون العين هو الأصل حتى تقوم دلالةٌ على الحركة. وأما انقلاب العين فإنما هو لما حدث فيها من الفتح عند مجاورتها تاء التأنيث، فوقف الكلام هناك. وكأنها كانت شوهة، فلما حذفت الهاء بقيت شوةٌ ففتحوا الواو لتاء التأنيث، فصار شوة، فانقلبت الواو ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها. فإن قيل: ما تنكر أن تكون فعلة، لأن اللام لما ردت وأبدلت في شاء همزة بقيت الألف بحالها. ولو كانت إنما انفتحت العين لمجاورتها التاء لوجب إذا رجعت اللام وزالت التاء أن تعود إلى سكونها، فيقال: شوةٌ وشوءٌ إذا أبدلت الهمزة؟ قيل: هذا لا يلزم، لأن العين لما تحركت لمجاورتها التاء ثم ردت اللام بعد ذلك، تركت الفتحة في العين بحالها قبل الرد. وهذا مذهب سيبويه. ألا ترى أنه لم يكن عنده في قول الشاعر: جرى الدميان بالخبر اليقين دلالةٌ على تحرك العين من دم، لأنها لما أجري عليها الإعراب في قولهم: دمٌ ودماً ودمٍ، ثم رد اللام في التثنية بقى الحركة في العين على ما كانت عليه قبل الرد، كما قال الآخر: يديان بيضاوان عند محلم وقد أجمعوا على سكون العين من يد. وقد تراه، قال: يديان، فحركها عند الرد، لأنها قد جرت محركة قبل الرد. والقول فيه مثله في الدميان. وغيره من أصحابنا، وهو أبو العباس، يذهب إلى ترك العين من دم، لأنه مصدر دميت دماً، مثل: هويت هوى. قال أبو بكر بن السراج: وليس ذلك بشيء . ثم أورد ما نقلناه من كلام ابن السراج. وحاصل كلامه أن دماً أصله سكون العين، وأن لامه ياء لا واو. وبه جزم الزجاج في تفسيره: يسومونكم سوء العذاب الآية. قال: إن الأخفش يختار أن يكون المحذوف من ابن الواو، لأن أكثر ما يحذف الواو لثقلها، والياء تحذف أيضاً لأنها تثقل. والدليل على هذا أن يداً قد أجمعوا أن المحذوف منه الياء، ولهم دليل قاطع من الإجماع. يقال: يديت إليه يداً. ودم محذوف منه الياء، يقال: دمٌ ودميان. قال الشاعر: جرى الدميان بالخبر اليقين والبنوة ليس بشاهدٍ قاطعٍ في الواو، لأنهم يقولون: الفتوة، والتثنية فتيان، فابنٌ يجوز أن يكون المحذوف منه الواو والياء، وهما عندي متساويان. وقد حكى الخلاف ابن الشجري في أماليه في كون العين محركة وساكنة، وفي كون اللام ياءً وواواً، ورجح كونها ياء، قال: ودم عند بعض التصريفيين دميٌ ساكن العين، قالوا: لأن الأصل في هذه المنقوصات أن تكون أعينها سواكن، حتى يقوم دليلٌ على الحركة، من حيث كان السكون هو الأصل، والحركة طارئة. قالوا: وليس ظهور الحركة في دميان دليلاً على أن العين متحركة في الأصل، لأن الاسم إذا حذفت لامه واستمرت حركات الإعراب على عينه، ثم أعيدت اللام في بعض تصاريف الكلمة، ألزموا العين الحركة. وقال من خالف أصحاب هذا القول: أصل دمٍ دميٌ بفتح العين، لأن بعض العرب قلبوا لامه ألفاً فألحقوه بباب رحاً، فقالوا: هذا دمٌ ودماً كرحاً. وقال بعض العرب في تثنيته دمان فلم يردوا اللام، كما قالوا في تثنية يدٍ يدان. والوجه أن يكون العمل على الأكثر. وكذلك حكى قومٌ دموان. والأعرف فيه الياء. وعليه أنشدوا: جرى الدميان بالخبر اليقين قال بعض أهل اللغة: من العرب من يقول: الدم بالتشديد، كما تلفظ العامة، وهي لغة ردية. وأنشدوا لتأبط شراً: الرجز حيث التقت بكرٌ وفهمٌ كله *** والدم يجري بينهم كالجدول والعامة تفعل مثل هذا في الفم. ومن العرب من يشدد الفم أيضاً. وإنما يكون ذلك في الشعر، قال: يا ليتها قد خرجت من فمه انتهى. والجحر، بضم الجيم وسكون الحاء المهملة: الشق في الأرض. وقوله: جرى الدميان إلخ، أراد بالخبر اليقين ما اشتهر عند العرب، من أنه لا يمتزج دم المتباغضين. وهذا تلميحٌ في غاية الحسن، أي: لما امتزجا وعرف ما بيننا من العداوة. قال ابن الأعرابي: معناه لم يختلط دمي ودمه، من بغضي له وبغضه لي، بل يجري دمي يمنةً ودمه يسرة. ويوضحه قول المتلمس من قصيدة: الطويل أحارث إنا لو تساط دماؤن *** تزايلن حتى لا يمس دمٌ دما وقال ابن قتيبة في ترجمة المتلمس من كتاب الشعراء: هذا البيت من إفراطه. يقول: إن دماءهم تنماز من دماء غيرهم. وهذا محالٌ لا يكون أبداً. وكذا قال ابن عبد ربه في العقد الفريد. وتساط بالسين المهملة، يعني: تخلط. ومنه قول العامة: لو خلط دمي بدمه لما اختلط ، أي: لباينه من شدة العداوة، ولم يمازجه. وقال الأندلسي: معناه لو ذبحنا على جحرٍ واحد، لامتزجت دماؤنا بدمائكم. يصف ما بينهما من العداوة. وهذا خلاف المعنى، والصواب: لما امتزجت دماؤنا. ونقل بعض فضلاء العجم في شرح أبيات المفصل أن معنى البيت: لو ذبحنا على جحرٍ لعلم من الشجاع منا من الجبان، بجري دمه وجموده؛ لأن من زعمهم أن دم الشجاع يجري، ودم الجبان يجمد. وتحقيقه: جرى دمي ودمك ملتبسين بالخبر اليقين. ولا يخفى أن هذا المعنى غير صحيح هنا، بدليل ما قبله، وهو: الوافر لعمرك إنني وأبا رياحٍ *** على حال التكاشر منذ حين ليبغضني وأبغضه وأيض *** يراني دونه واراه دوني فلو أنا على جحرٍ ذبحن ***............. البيت هكذا روى الأبيات الثلاثة ابن دريد في كتابه المجتبى عن عبد الرحمن عن عمه الأصمعي، ونسبها لعلي بن بدال بن سليم. والتكاشر: المباسطة، من الكشر، وهو التبسم. وروى ابن دريد بدله في الجمهرة: على طول التجاور. وعلى بمعنى مع. وقد أدخل هذه الأبيات الثلاثة صاحب الحماسة البصرية في قصيدة المثقب العبدي. وأنشد بعدها: الوافر فإما أن تكون أخي بصدقٍ *** فأعرف منك غثي من سميني وإلا فاطر حني واتخذني *** عدواً أتقيك وتتقيني وتبعه ابن هشام في شرح شواهده، والعيني أيضاً في شرح شواهد شروح الألفية، ولم يوردها أحد في هذه القصيدة. وقد رجعت إلى ديوانه فلم أجدها في هذه القصيدة. ورواها المفضل في المفضليات عارية عنها، ولم ينبه عليها أحد من شراحهم كابن الأنباري وغيره. وقال ابن المستوفي: رأيت هذه الأبيات في كتاب نحوٍ قديم منسوبةً للفرزدق. ووجدتها أيضاً في نسخة قديمة ذكر كاتبها أنها زيادات الحماسة، كتبها محمد بن أحمد بن الحسن في ربيع الآخر، سنة ثمان وتسعين وثلثمائة، ونسبها لمرداس بن عمرٍو. وقال: وتروى للأخطل. ووجدتها في نوادر اللحياني أبي الحسن علي بن حازم قد أنشدها لأوس. انتهى كلام ابن المستوفي. وابن دريد هو المرجع في هذا الأمر، فينبغي أن يؤخذ بقوله. والله أعلم. وعلي بن بدال، بفتح الموحدة وتشديد الدال، وآخره لام. وأنشد بعده: الطويل فلسنا على الأعقاب تدمى كلومن *** ولكن على أقدامنا يقطر الدما على أن المبرد استدل به بأن الدم أصله فعل بتحريك العين، ولامه ياء محذوفة، بدليل أن الشاعر لما اضطر أخرجه على أصله وجاء به على الوضع الأول. فقوله الدما بفتح الدال فاعل يقطر، والضمة مقدرة على الألف، لأنه اسمٌ مقصور، وأصله دميٌ، تحركت الياء وانفتح ما قبلها فقلبت ألفاً. والدليل على أن اللام ياءٌ قولهم في التثنية: دميان، وفي الفعل: دميت يده. هذا محصل مدعاه، وهو إنما يتم على أن فتح الميم قبل حذف اللام، وعلى أن الدما بمعنى الدم، وعلى أن يقطر بالياء التحتية. وفي كل واحد بحث. أما الأول فممنوع، وإنما فتحة الميم حادثةٌ بعد حذف اللام، وهو مذهب سيبويه، وذلك أن الحركة عنده إذا حدثت لحذف حرف ثم رد المحذوف ثبتت الحركة التي كانت قد جرت على الساكن قبل دخولها عليه بحالها. ويشهد له قولهم: يديان؛ فإنهم أجمعوا على سكون العين من يد من غير خلاف. وقد نراهم، قالوا: يديان، فحركوا عند الرد، لأنها قد جرت محركة قبل رد اللام. وأما الثاني فممنوعٌ أيضاً، لاحتمال أنه مصدر دمي دماً، كفرح يفرح فرحاً. قال ابن جني في شرح تصريف المازني: دماً: مصدر دميت يده، لا بمعنى الدم. وأما قوله، وأنشدنيه أبو علي: ولكن على أقدامنا يقطر الدما فالدما في موضع رفع، وهو مصدر مقصور على فعل، وتقديره على حذف مضاف. وكذا قول الشاعر: الرمل كأطومٍ فقدت برغزه *** أعقبتها الغبس منه عدما غفلت ثم أتت ترقبه *** فإذا هي بعظامٍ ودما فإنه أوقع المصدر فيهما موقع الجوهر، وتأويله عندي على حذف المضاف، كأنه قال: يقطر ذو الدمى، وإذا هي بعظام وذي دمًى. انتهى. والأطوم، بفتح الألف وضم الطاء: البقرة الوحشية. والبرغز، بضم الموحدة فالغين المعجمة، وسكون الراء المهملة بينهما، وآخره زاي، هو ولدها. والغبس: جمع أغبس، وهي الذئاب، وقيل: هي الكلاب. والدما في الموضعين لا خفاء في كونه بمعنى الدم، والتأويل خلاف الظاهر. وأما الثالث فقد روي أيضاً بالنون وبالتاء الفوقية. أما الأول فقد قال العسكري في كتاب التصحيف: اختلفوا في نصب الدم، ورواه أبو عبيدة: على أقدامنا تقطر الدما بالنون، أي: نقطر دماً من جراحنا. انتهى. فقطر على هذا متعدٍّ، يقال: قطر الدم وقطرته، أي: سال وأسلته. وأما الرواية بالتاء الفوقية فقد رواها شراح الحماسة، وقالوا: قطر فعلٌ متعدٍّ مسندٌ إلى ضمير الكلوم. فالدما على هاتين الروايتين مفعول به، يحتمل أنه مقصور كما قال المبرد، ويحتمل أنه الدم منقوص وألفه للإطلاق. وحينئذ يسقط الاستدلال على أنه مقصور. وقال المرزوقي في شرح الحماسة، وتبعه التبريزي، وغيره: وإن شئت جعلت الدم منصوباً على التمييز، كأنه قال: تقطر دماً، وأدخل الألف واللام ولم يعتد بهما. وقال في شرح الفصيح: وبعضهم يجعل الدما تمييزاً، ولا يعتد بالألف واللام، أراد تقطر كلومنا دماً، أي: من الدم، كما في قوله: الوافر ولا بفزارة الشعر الرقابا وما أشبهه. ويجوز في هذا الوجه أن تنصبه على التشبيه بالمفعول به، كما يفعل بقوله: هو الحسن وجهاً. انتهى. أقول: قد أخطأ أبو عليٍّ الوجه الأول في المسائل البصرية، قال: وحمل الدما على التمييز خطأ. انتهى. وأما الوجه الثاني: فليس على منوال ما مثل به. وزاد ابن جني في إعراب الحماسة، فقال: روي: تقطر الدما، بفتح المثناة الفوقية وضمها. أما الأول فلأن قطر متعدٍّ. وأما الثاني فعلى أنه منقول من قطر الدم بالرفع، وأقطرته، كقولك: سال وأسلته. انتهى. وقد جاء تقطر الدما متعدياً ناصباً للدم، في قول العباس بن عبد المطلب لأبي طالب، حين قتل خداش بن علقمة بن عامر، من أبيات عدتها ثلاثة عشر بيتاً، أوردها أبو تمام في آخر كتاب مختار أشعار القبائل، وهو: الطويل أبى قومنا أن ينصفونا فأنصفت *** قواطع في أيماننا تقطر الدما وأورد السيوطي في الأشباه والنظائر مجلس ثعلب مع جماعة من النحويين، نقله من كتاب غرائب مجالس النحويين للزجاجي، قال: حدثنا أبو الحسن علي بن سليمان، قال: كنا عند أبي العباس ثعلب فأنشدنا: فلسنا على الأعقاب تدمى كلومن *** ولكن على أقدامنا يقطر الدما فسألنا: ما تقولون فيه؟ فقلنا: الدم فاعلٌ جاء على الأصل. فقال: هكذا رواية أبي عبيد. وكان الأصمعي، يقول: هذا غلط، وإنما الرواية: تقطر الدما منقوطة من فوقها، والمعنى: ولكن على أقدامنا تقطر الكلوم الدما، فيصير مفعولاً به. ويقال: قطر الماء وقطرته أنا. وأنشدنا: فإذا هي بعظام ودما البيتين وقال: كان الأصمعي يقول: إنما الرواية بكسر الدال، ثم قصر الممدود. انتهى. وأما ما ادعى المبرد أن لام الدم ياء لا واو، فقد تقدم الكلام عليه في البيت قبل هذا. وهو من أبيات ثلاثة أوردها أبو تمام في الحماسة للحصين بن الحمام المري، وأوردها الأعلم الشنتمري في حماسته أيضاً، وهي: الطويل تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد *** لنفسي حياة مثل أن أتقدما فلسنا على الأعقاب تدمى كلومن *** ولكن على أقدامنا تقطر الدما نفلق هاماً من رجالٍ أعزةٍ *** علينا وهم كانوا أعق وأظلما وقوله: تأخرت أستبقي الحياة إلخ، قال الطبرسي في شرحه: يقول: نكصت على عقبي رغبة ً في الحياة، فرأيت الحياة في التقدم. وقال المرزوقي: يجوز أن يكون هذا مثل قولهم: الشجاع موقى ، أي: تتهيبه الأقران فيتحامونه، فيكون ذلك وقايةً له. وفي طريقته قول الآخر: المتقارب يخاف الجبان يرى أنه *** سيقتل قبل انقضاء الأجل وقد تدرك الحادثان الجبان *** ويسلم منها الشجاع البطل ومثله قول الآخر: المتقارب نهين النفوس وهون النفو *** س يوم الكريهة أوقى لها ويجوز أن يقول: أحجمت مستبقياً لعيشي، فلم أجد لنفسي عيشاً كما يكون في الإقدام، وذلك لأن الأحدوثة الجميلة عند الناس إنما تكون بالتقدم لا بالتأخر، وبالاقتحام لا بالانحراف. ومن ذكر بالجميل وتحدث عنه بالبلاء حي ذكره واسمه، وإن ذهب أثره وجسمه. وقوله: حياةً مثل أن أتقدما ، معناه حياة تشبه الحياة المكتسبة في التقدم وبالتقدم. وقوله: فلسنا على الأعقاب إلخ، الأعقاب: جمع عقب، بفتح فكسر، هو مؤخر القدم. والكلوم: جمع كلم بفتح فسكون، وهو الجرح. قال المرزوقي: أراد: لسنا بدامية الكلوم على الأعقاب. ولو لم يجعل الإخبار على أنفسهم لكان الكلام: ليست كلومنا بداميةٍ على الأعقاب. فيقول: نتوجه نحو الأعداء في الحرب ولا نعرض عنهم، فإذا جرحنا كانت الجراحات في مقدمنا، لا في مؤخرنا، وسالت الدماء على أقدامنا، لا على أعقابنا. ومثله قول القطامي: البسيط ليست تجرح فراراً ظهورهم *** وفي النحور كلومٌ ذات أبلاد انتهى. وقد أورد ابن هشام صاحب السيرة هذا البيت في سيرته، وتبعه الشامي فأورده في سيرته أيضاً، قالا: إن من جملة من فر يوم بدرٍ خالد بن الأعلم، وهو القائل: ولسنا على الأعقاب تدمى كلومن *** ولكن على أقدامنا تقطر الدما فما صدق في ذلك، بل هو أول من فر يوم بدر، فأدرك وأسر. انتهى. فظاهره أنه قائل هذا البيت. وليس كذلك، وإنما قاله متمثلاً به. وقوله: نفلق هاماً إلخ، قال المرزوقي: يقول: نشقق هامات من رجالٍ يكرمون علينا، لأنهم منا؛ وهم كانوا أسبق إلى العقوق، وأوفر ظلماً، لأنهم بدؤونا بالشر وألجؤونا إلى القتال، فنحن منتقمون ومجازون. انتهى. وقال الخطيب التبريزي: أصل العقوق القطع، يقال: عق الرحم كما يقال: قطعها. وجمع العاق أعقةٌ؛ وهو جمع نادر. انتهى. وهذه الأبيات الثلاثة من قصيدة عدتها واحدٌ وأربعون بيتاً للحصين بن الحمام، وهو شاعر جاهلي، أوردها المفضل في المفضليات وليس البيتان الأولان من الثلاثة موجودين في رواية المفضل. والبيت الثالث في روايته إنما هو: يفلقن بالنون، لأنه ضمير السيوف في بيتٍ قبله، وهو: صبرنا وكان الصبر منا سجيةً *** بأسيافنا يقطعن كفاً ومعصما وقد تقدم أبياتٌ كثيرة منها مشروحةٌ مع ترجمته في الشاهد الثاني والعشرين بعد المائتين، من باب الاستثناء. وقد أورد ابن الأنباري في شرحه منشأ هذه القصيدة، فقال: كانت بنو سعد بن ذبيان قد أحلبت على بني سهم مع بني صرمة، وأحلبت معهم محارب بن خصفة، فساروا إليهم ورئيسهم حميضة بن حرملة الصرمي ونكصت عن حصين ابن الحمام قبيلتان، وهما عدوان بن وائلة بن سهم، فلم يكن معه إلا بنو وائلة بن سهم والحرقة، فسار إليهم فلقيهم الحصين ومن معه بدارة موضوع، فظفر بهم وهزمهم، وقتل منهم فأكثر. فلذلك يقول الحصين بن الحمام: الطويل ولا غرو إلا يوم جاءت محاربٌ *** يقودون ألفاً كلهم قد تكتبا موالي موالينا ليسبوا نساءن *** أثعلب قد جئتم بنكراء ثعلبا وإنما سارت إليهم محاربٌ للحلف الذي كان بينهم. فقال الحصين: الطويل أيا أخوينا من أبينا وأمن *** إليكم وعند الله والرحم العذر انتهى. وأحلب، بالحاء المهملة، قال في الصحاح: يقال للقوم إذا جاؤوا من كل أوب للنصرة: قد أحلبوا. والمحلب: الناصر. ويعجبني من آخر هذه القصيدة قوله: فلست بمبتاع الحياة بسبةٍ *** ولا مبتغٍ من رهبة الموت سلما يقول: لا أشتري الحياة بما أسب عليه وأعير به، ولا أطلب النجاة من الموت، لأني أعلم أن الموت لا بد منه. يعني: من طلب النجاة من الموت احتمل الذل، ومن علم أنه ميت لا محالة لم يحتمل المذلة. والحصين، بضم الحاء وفتح الصاد المهملتين. والحمام، بضم المهملة وتخفيف الميم. والمري نسبة إلى مرة، وهو أبو قبيلة، وهو مرة بن عوف بن سعد بن ذبيان. وسهم وصرمة أخوان، وهما ابنا مرة. ووائلة هو ابن سهم. والحصين من بني وائلة، وهو الحصين بن الحمام بن ربيعة بن مساب بن حران بن وائلة. وحميضة، بالتصغير هو ابن حرملة بن الأشعر بن إياس بن مريطة بن ضرمة بن صرمة بن مرة. وأنشد بعده: يا رب سارٍ بات ما توسد *** إلا ذراع العنس وكف اليدا على أن السيرافي استدل به على أن يدا أصله فعل بتحريك العين. قال صاحب الصحاح: بعض العرب يقول: لليد يداً، مثل رحًى. وأنشد الشعر. وتثنيتها على هذه اللغة يديان مثل رحيان. قال الشاعر: يديان بيضاوان عند محرق *** قد تمنعانك منهما أن تهضما انتهى. وتبعه ابن يعيش بقوله: والذي أراه أن بعض العرب يقول في اليد يدا . إلى آخر ما ذكره صاحب الصحاح. وقال ابن الأنباري في كتاب الأضداد: أنشد الفراء: يا رب سارٍ بات ما توسدا إلخ أي: كان ذراع الناقة له بمنزلة الوسادة. وموضع اليد خفضٌ بإضافة الكف إليها، وثبتت الألف فيها، وهي مخفوضة لأنها شبهت بالرحى والفتى والعصا. وعلى هذا قالت جماعةٌ من العرب: قام أباك، وجلس أخاك، فشبهوهما بعصاك ورحاك. هذا مذهب أصحابنا. وقال غيرهم: موضع اليد نصبٌ بكف، وكف فعلٌ ماض من قولك: قد كف فلان الأذى عنا. انتهى كلامه. فتأمل كلامه. ويا: حرف تنبيه. ورب: حرف جر. وسار: اسم فاعل من سرى في الليل. واسم بات ضمير سار، وجملة: ما توسدا خبرها، والجملة الكبرى صفةٌ لسارٍ. ويجوز أن تكون بات تامة، وجملة: ما توسدا حالٌ من ضمير فاعلها. وتوسد: بمعنى اتخذ وسادة. والعنس، بفتح العين وسكون النون: الناقة الشديدة. ويروى: العيس بالكسر وبالمثناة التحتية، وهي الإبل البيض التي يخالط بياضها شيءٌ من الشقرة، واحدها أعيس والأنثى عيساء. يقول: أكثر من يسير الليل لم يتوسد للاستراحة إلا ذراع ناقته المعقولة، وكف يده. وجواب رب محذوف، تقديره: لقيته، ومذكورٌ في بيت بعده. ولا يصح أن يكون جوابها ما توسد. فتأمل. وهذا الرجز لم أقف على قائله ولا تتمته. والله أعلم. وأنشد بعده: الطويل هما خطتا إما إسارٌ ومنةٌ *** وإما دمٌ والقتل بالحر أجدر على أن نون التثنية قد تحذف للضرورة كما هنا، فإن الأصل: هما خطتان. وهذا على رفع إسار. وأما على جره فخطتا مضاف إليه، وحذفت النون للإضافة. قال ابن هشام في المغني: في رفع إسار حذف نون المثنى من خطتان. وفي جره الفصل بين المتضايفين بإما. فلم ينفك البيت عن ضرورة. انتهى. وقد تكلم على الوجهين ابن جني في إعراب الحماسة بكلامٍ لا مزيد عليه في الحسن. قال: أما الرفع فظريف المذهب، وظاهر أمره أنه على لغة من حذف نون التثنية لغير إضافة، فقد حكي ذلك. ومما يعزى إلى كلام البهائم قول الحجلة للقطاة: بيضك ثنتا، وبيضي مائتا ، أي: ثنتان، ومائتان. وقول الآخر: الطويل لنا أعنزٌ لبنٌ ثلاثٌ فبعضه *** لأولادها ثنتا وما بيننا عنز وذهب الفراء في قوله: المتقارب لها متنتان خظاتا كم *** أكب على ساعديه النمر إلى أنه أراد خظاتان، فحذف النون استخفافاً. واستدل على ذلك بقول الآخر: الهزج ومتنان خظاتان *** كزحلوفٍ من الهضب وقد تقصيت القول على هذا الموضع في كتابي سر الصناعة. فعلى هذا يجيء قوله: هما خطتا إما إسارٌ ومنةٌ *** وإما دمٌ........... على أنه أراد: خطتان، ثم حذف النون على ما تقدم. فإن قلت: فإذا كان بالتثنية قد أثبت شيئين، فكيف فسر بالواحد، فقال: إما وإما، وهما يثبتان الواحد كما تثبته أو. فالجواب: أنه تصور أمرين، واعتقد أنه لا بد من أحدهما، وعلم أن المحصول عليه أحدهما لا كلاهما، ففسر ما تصوره، وهما شيئان، بما يحصل عليه وهو الواحد، كما يخص بعد العموم في نحو قولك: ضربت زيداً رأسه، ولقيت بني فلان ناساً منهم. فإن قلت: فهلا حملته على حذف المضاف فكان أقرب مذهباً وأيسر متوهماً، حتى كأنه قال: هما إحدى خطتين؟ قيل: يمنع من ذلك قوله: هما، وهما لا يكون خبره مفرداً. ألا ترى لا تقول: أخواك جالس ولا نحو ذلك. فلذلك انصرفنا عن هذا الوجه، إلى الذي قبله. ويجوز عندي فيه وجهٌ أعلى من هذا الضعف حذف نون التثنية عندنا، وهو أن يكون على وجه الحكاية، حتى كأنه قال: هما خطتا قولك: إما إسار ومنة، وإما دم، فتحذف النون على هذا للإضافة البتة. وأما من جر إما إسار ومنة، وإما دم فأمره واضح. وذلك أنه حذف النون من خطتان للإضافة، ولم يعتد إما فاصلاً بين المضاف والمضاف إليه. وعلى هذا تقول: هما غلاما إما زيد، وإما عمرو، وهذان ضاربا إما زيد، وإما جعفر. وأجود من هذا أن تقول: هما إما خطتا إسارٍ ومنة وإما دمٌ. وإن شئت: وإما خطتا دم. فإن قلت: إن إما مثل وفي أن كل واحدة منهما توجب أحد الشيئين، فترجع بك الحال إذن إلى أنك كأنك قلت: هما خطتا أحد هذين الأمرين. وليس الأمر كذلك، إنما المعنى هما خطتان إحداهما كذا، والأخرى كذا. وليست أيضاً كل واحدة من الخطتين للإسار والدم جميعاً، إنما أحدهما لأحدهما على ما تقدم. فالجواب: أن سبب جواز ذلك هو أن كل واحد من الإسار والدم لما كان معرضاً لكل واحدةٍ من الخطتين، يصلح أن يصير بصاحب الخطة إليه، أطلقا جميعاً على كل واحدة منهما بأن أضيفا إليه، وجعل مفضًى له ومظنة منه. ونحو منه قول الله تبارك وتعالى: {ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله} ولم يجعل كل واحد من الليل والنهار لكل واحدٍ من السكون والابتغاء، وإنما جعل الليل للسكون، والنهار للابتغاء، فخلط الكلام اكتفاءً بمعرفة المخاطبين بوقت السكون من وقت الابتغاء. انتهى. والبيت من أحد عشر بيتاً لتأبط شراً، أوردها أبو تمام في الحماسة هكذا: الطويل إذا المرء لم يحتل وقد جد جده *** أضاع وقاسى أمره وهو مدبر ولكن أخو الحزم الذي ليس نازل *** به الخطب إلا وهو للقصد مبصر فذاك قريع الدهر ما عاش حولٌ *** إذا سد منه منخرٌ جاش منخر أقول للحيان وقد صفرت لهم *** وطابي ويومي ضيق الحجر معور هما خطتا إما إسارٍ ومنةٍ *** وإما دمٍ والقتل بالحر أجدر وأخرى أصادي النفس عنها وإنه *** لمورد حزمٍ إن فعلت ومصدر فرشت لها صدري فزل عن الصف *** به جؤجؤٌ عبلٌ ومتنٌ مخصر فخالط سهل الأرض لم يكدح الصف *** به كدحةً والموت خزيان ينظر فأبت إلى فهمٍ وما كدت آيب *** وكم مثلها فارقتها وهي تصفر وأورد صاحب الأغاني أول الأبيات أقول للحيان والأبيات الثلاثة قبله، بعد قوله: فأبت إلى فهم..... البيت. وخبر هذه الأبيات أن تأبط شراً كان يشتار عسلاً في غارٍ من بلاد هذيل، وكان يأتيه كل عام، وأن هذيلاً ذكر لها ذلك، فرصدته لوقت، حتى إذا هو جاء وأصحابه تدلى، فدخل الغار. فأغارت هذيلٌ على أصحابه وأنفروهم، ووقفوا على الغار، فحركوا الحبل، فأطلع رأسه، فقالوا: اصعد. قال: فعلام أصعد؟ على الطلاقة والفداء؟ قالوا: لا شرط لك. قال: أفتراكم آخذي وقاتلي وآكلي جنائي. لا والله لا أفعل ثم جعل يسيل العسل على فم الغار، ثم عمد إلى زقٍّ فشده على صدره ثم لصق بالعسل، ولم يزل يتزلق عليه حتى جاء سليماً إلى أسفل الجبل، فنهض وفاتهم، وبين موضعه الذي وقع فيه وبينهم مسيرة ثلاثة أيام. وقوله: إذا المرء لم يحتل إلخ، الحيلة من حال الشيء، إذا انقلب عن جهته، كأن صاحبها يريد أن يستنبط ما تحول عند غيره، ولذلك يقال: فلانٌ حولٌ قلب. وجد جده: ازداد جده جداً. والجد، بالكسر: الاجتهاد. وأضاع: وجد أمره ضائعاً، وبمعنى ضيع. والمعنى عالج أمره مدبراً فيه غير مقبل. أي: إذا المرء لم يطلب رشده في إصلاح أمره في الوقت الذي يجب أن يفعله، آل به أمره إلى الضياع. وقوله: ولكن أخو الحزم ، يقول: صاحب الحزم هو الذي يستعد للأمر قبل نزوله. وقوله: فذاك قريع الدهر إلخ، يجوز أن يكون في معنى مختار الدهر، ويكون من قرعت، أي: اخترته بقرعتي. ويجوز أن يكون من قرعه الدهر بنوائبه حتى جرب وتبصر. وقوله: ما عاش، أي: مدة عيشه. وقوله: إذا سد منه منخر إلخ، مثلٌ للمكروب المضيق عليه. وجاش: تحرك واضطرب. والمعنى: لا يؤخذ عليه طريقٌ إلا نفد في طريقٍ آخر، لافتنانه في الحيل. وقوله: أقول للحيان إلخ، لحيان: بطنٌ من هذيل، خاطبهم لما كانوا على رأس الغار الذي اشتار منه العسل. وقوله: صفرت وطابي الواو للحال. والوطاب هنا: ظروف العسل، وهي في الأصل جمع وطب، وهو سقاء اللبن. وصفرت: خلت. أشار إلى ظروف العسل التي صب العسل منها على الجانب الآخر، وركبه متزلقاً حتى لحق بالسهل. وقيل: معناه خلا قلبي من ودهم، يريد وطاب ودي. وقيل: أشرفت نفسي على الهلاك. فأراد بالوطاب جسمه. ومعور، اسم فاعل من أعور لك الشيء، إذا بدت لك عورته، وهي موضع المخافة. وكل ما طلبته فأمكنك، فقد أعورك وأعور لك. وقوله: هما خطتا إلخ، هذا مقول القول. والخطة، بالضم: الحالة والشأن. وكأنهم كانوا يريدونه على الحالتين، فأخذ يتهكم عليهم، ويحكي مقالتهم. والمعنى: ليس إلا واحدةٌ من خصلتين على زعمكم: إما استئسارٌ والتزام منتكم إن رأيتم العفو. وإما قتلٌ وهو بالحر أجدر مما يكسبه الذل. فهاتان الخصلتان هما اللتان أشار إليهما، بقوله: هما خطتا. وقد ثلثهما بخطةٍ أخرى ذكرها فيما بعد. وكله تهكم وهزءٌ. وقوله: والقتل بالحر أجدر اعتراضٌ بين ما عده من الخصال. وقوله: وأخرى أصادي النفس إلخ، المصاداة: إدارة الرأي في تدبير الشيء والإتيان به. يقول: وها هنا خطة أخرى أداري نفسي فيها، وإنها هي الموضع الذي يرده الحزم ويصدر عنه إن فعلت. وإنما قسم الكلام هذه الأقسام لأنه رآهم يبتون أمره عليها، ولأنه نظر إلى جهتي الجبل، فعلم أنه إن رضي ما أراده بنو لحيان كان فيه إحدى الحالتين من الأسر والقتل بزعمهم. وإن احتال للجهة الأخرى فالحزم فيها وخلاصه فيها، وكان أمراً ثالثاً. وقوله: وإنها لمورد حزم اعتراض أيضاً. وهذه الأبيات الثلاثة من باب التقسيم الذي هو من محاسن الكلام، وهو أن يقصد وصف شيء تختلف أحواله، فيقسم أقساماً محورة لا يمكن الزيادة عليها ولا النقصان، كما قسم تأبط شراً أحواله مع بني لحيان أقساماً ثلاثة لا رابع لها. ومنه قول بشر بن أبي خازم: الوافر ولا ينجي من الغمرات إل *** براكاء القتال والفرار وليس في أقسام النجاة للمحارب قسمٌ ثالث. ونحوه قول زهير: الطويل وأعلم ما في اليوم والأمس قبله *** ولكنني عن علم ما في غدٍ عمي فقسم الأيام ثلاثة، ولا رابع لها. وقوله: فرشت لها صدري إلخ، بين بهذا كيفية مزاولته لنفسه. والفرش: البسط. وضمير لها: للخطة التي عبر عنها بقوله: وأخرى، أي: فرشت من أجل هذه الخطة صدري على الصفا. وهذا حين صب العسل فتزلق به عن الصفا، أي: بصدره. جؤجؤ عبل، أي: ضخم. ومتن مخصر، أي: دقيق. والصدر والمتن: صدره ومتنه، ولكنه أخرجه مخرج قولهم: لقيت بزيدٍ الأسد، وزيدٌ هو الأسد عندهم، ووضع فرشت موضع ألقيت ووضعت. ويقال: فرشت ساحتي بالأجر. وأفرشت الشاة للذبح، إذا أضجعتها. كذا قال التبريزي. وقوله: فخالط سهل الأرض إلخ، الخلط، أصله تداخل أجزاء الشيء في الشيء. والكدح بالأسنان والحجر دون الكدم. يقول: وصلت إلى السهل، ولم يؤثر الصفا، وهو الصخر، في صدري أثراً ولا خدشاً، والموت كان قد طمع في، فلما رآني وقد تخلصت بقي مستحياً. وخزيان، من الخزاية وهي الاستحياء، ويجوز أن يكون من الخزي، وهو الفضيحة والهوان. وينظر: خبر ثان وحال من ضمير خزيان. وينظر: يتحير. وقد حمل قوله تعالى: {وأنتم حينئذٍ تنظرون} على أن معنى تتحيرون. وقوله: فأبت إلى فهم . إلى آخره، أبت: رجعت. وفهم: قبيلة تأبط شراً. وقوله: وكم مثلها إلخ، أي: مثل هذه الخطة فارقتها بالخروج منها وهي مغلوبة تصفر وأنا الغالب. وقيل معناه: كم مثل لحيان فارقتها وهي تتلهف كيف أفلت. وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام على هذا البيت في باب الفعل، وفي أفعال المقاربة. وقد تقدمت ترجمة تأبط شراً في الشاهد الخامس عشر من أوائل الكتاب. وأنشد بعده:
|